متفرقات

المخاطر الإقتصادية.. تقرير من منتدى الإقتصاد العالمي

المخاطر عموما هي أحداث محتملة لها آثار بالغة في الاقتصاد، هذا ما فسره التقرير الذي صدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في كانون الثاني (يناير) من هذا العام، والذي يتحدث عن مؤشراتها التي تواجه العالم خلال هذه الفترة. لذلك بدأ التقرير بعبارات مثل يواجه العالم مجموعة من المخاطر التي تبدو جديدة تماما ومألوفة بشكل مخيف، فلقد شهدنا عودة “القديمة” منها التي تتمثل في التضخم، وأزمات تكلفة المعيشة، والحروب التجارية، وتدفقات رأس المال الخارجة من الأسواق الناشئة، والاضطرابات الاجتماعية المنتشرة، والمواجهات الجيوسياسية، وشبح الحرب النووية

ونلاحظ أن التقرير يرى أن القليل من قادة الأعمال من هذا الجيل وصناع السياسة العامة لديهم الخبرة الكافية بمثل هذه المخاطر، خاصة أنه يتجدد زخمها اليوم مع تطورات اقتصادية جديدة نسبيا من بينها النمو المنخفض، والاستثمار العالمي المنخفض، وتراجع العولمة، وانخفاض التعداد العالمي للبشر. فنحن نواجه تحديات ذات طبيعة متكررة، “حدث هذا من قبل” لكن تزاحم هذا النوع من التحديات مشكلتان أساسيتان هما ضعف الخبرة لدى قادة الأعمال بتلك المخاطر التي حدثت في زمن لم يشهدوه، بل قرأوا عنه، والثاني، أنها تتزامن مع قضايا مثل انخفاض النمو، وتنامي الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، مع تراجع في الشراكة العالمية، وكل هذا أدى إلى حدوث مفاجآت غير سارة خلال الشهور الماضية من هذا العام

لقد كان انهيار ثلاثة بنوك معا بشكل متزامن يمثل إخفاقا عالي المستوى بشأن قدرة العالم على التنبؤ بالمخاطر، فقد أشارت تقارير متنوعة إلى أن البيانات تظهر أن البنوك الأمريكية الثلاثة التي انهارت حتى الآن هذا العام أكبر من البنوك الـ25 التي انهارت في 2008، فالبنوك الثلاثة تمتلك ما مجموعه 532 مليار دولار من الأصول، وعندما يتم تعديلها وفقا للتضخم فإنها تزيد على 526 مليار دولار التي امتلكتها جميع البنوك الأمريكية التي انهارت في 2008 في ذروة الأزمة المالية، هكذا يبدو الأثر واضحا عندما تلتقي الأزمات، فالتضخم من جانب والانهيار البنكي من جانب آخر، هذا الخطر الذي لم يكن في الحسبان في بداية العام أصبح حديث مجتمع الأعمال، ووصل الأمر إلى تأكيد إحدى الدراسات مدى هشاشة النظام المصرفي الأمريكي لدرجة أن 186 بنكا آخر قد تكون معرضة لخطر الفشل، ولا شك أن هذا دليل على الفشل في قراءة المخاطر في وقتها الصحيح والتعامل معها بشكل جدي، وهنا يمكن القول إن ذلك يعود إلى مشكلة ضعف الخبرة التي أشار إليها تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، فالأسئلة ما زالت قائمة بشأن الأسباب الكامنة خلف هذه الانهيارات وليس من باب المصادفة أن تحدث مع رفع أسعار الفائدة بسرعة لم نشهدها منذ عقود لتهدئة التضخم، وهل تسبب هذا التشديد النقدي الكبير في ارتباك القطاع المصرفي، فارتفاع أسعار الفائدة يقلل من قيمة الأوراق المالية الاستثمارية المحتفظ بها كأصول وهذا يؤثر بشكل واضح في المحافظ الاستثمارية للبنوك، وإذا كانت الأزمة المصرفية التي حدثت هذا العام قد انتهت وإن بقيت الأسئلة المهمة دون إجابة، فهل البنوك آمنة وسليمة كما تريد السلطات المالية؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل هذا يعني أن النظام المصرفي لم يعد ملائما؟

لكن المخاطر التي فشل العالم في التنبؤ بها لم تقف عند مسألة النظام المصرفي، بل وصلت الآن إلى العقارات التجارية، فالتعامل العنيف مع التضخم أدى إلى ظهور أزمة في العقارات التجارية، والأمر يعود مرة إلى أخرى إلى وجود مخاطر قديمة معروفة مثل التضخم، مع مخاطر أخرى مستجدة مثل الخروج السريع من الأزمة الصحية، مع وجود فراغات في مستويات العودة بين القطاعات الاقتصادية، فمثلا شهد القطاع العقاري التجاري تباطؤا ملحوظا مع تغير أنظمة العمل نحو العمل عن بعد، ما قلص من حجم مكاتب العمل المستأجرة وعرض الشركات العقارية التي تحملت قروضا ضخمة من أجل بناء العقارات لضغوط مستمرة مع ظهور بوادر للفشل واسعة، هذه النتيجة أكدها تقرير لصندوق النقد الدولي أشار إلى أن تشديد الأوضاع المالية العالمية وتحول البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة، عززا من تباطؤ أسعار العقارات في القطاعين الصناعي والسكني، وزادا من انخفاض أسعار العقارات التجارية والمكتبية

وأشارت تقارير أخرى إلى أن قيم الأصول العقارية في بريطانيا عانت أسرع انخفاض لها على الإطلاق، حيث انخفض مؤشر واحد للعقارات التجارية بنسبة 16.1 في المائة، وشهدت المكاتب الأمريكية معدلات إشغال منخفضة، ما دفع أصحاب العقارات إلى تسليم بعض العقارات التي تقل قيمتها الآن عن الديون المضمونة إلى مقرضيهم، وهي الحالة نفسها في أوروبا حيث تم تداول السندات المدعومة بالعقارات عند مستويات متدنية وسط مخاوف من عدم تمكن الملاك جمع ما يكفي من المبيعات لتغطية 165 مليار دولار من الديون. لا شك أن العودة إلى ما يشبه أزمة 2008 مع الرهون العقارية قد يجعل الشعوب تتساءل عن قدرة صناع السياسات العالمية من قراءة المخاطر بشكل جيد وفهم الاتجاهات بطريقة صحيحة، وهل المشكلة أصبحت تكمن في قل الخبرة كما يشير تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي. ورغم هذه التحديات الصعبة، فإن التقرير يشير إلى التكنولوجيا المتسارعة والذكاء الاصطناعي كبارقة أمل، فالاستثمار الخاص والبحث والتطوير في التقنيات الناشئة ستستمر بوتيرة متسارعة على مدار العقد المقبل، ما يؤدي إلى تطورات في الذكاء الاصطناعي وهذه التقنيات تقدم حلولا جزئية لمجموعة من الأزمات الناشئة، لكن هذه التقنيات لها مخاطرها أيضا، فالحديث تزايد بشأن المعلومات المضللة واحتمالية فقدان السيطرة والتأثير السلبي في الوظائف إلى جانب ارتفاع معدلات الجريمة السيبرانية

أمام هذه المخاطر غير المحسوبة، والتي تمثل اتجاهات جديدة تتضاءل معها خبرات البشرية الحالية، فإن الحل يكمن في مزيد من التشاركية وتقاسم المخاطر، والعمل المؤسسي مع البحث والتطوير والدراسة المتأنية لها بجميع أنواعها والانفتاح على الأفكار الجديدة، فالعالم اليوم يسير في منطقة ضبابية تبدو معالمها مألوفة لكنها قد تشتمل على مفاجآت من العيار الثقيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى